نوبة غرق بقلم الكاتب عصام الدين محمد أحمد
نــوبة غـــرق
نزلت من القطار ، انهمرت مع سيل المتجهين للميدان، سياج من الحديد المُضفر يقطع طولياً شارع المحطة، المقاهي مرصوصة على الرصيف، المقاعد تشغي بالناس، كم تتوق نفسي لمزاملتهم القعود !
الأمنية ساكنة الجوارح منذ سنوات التلمذة،تملك الثمن الآن فلِم لا!
الطريق جد طويل، ست ساعات من الحيطة والحذر في الحوار المكرور،وكأن القطار مرفأ بضاعة الكلام،كاد نافوخي أن يتشظى، والمُكافأة – على الأقل – شاي المقهى !
وربما كان لك نصيب من سمر الوجوه المُرتابة،تتفحص وجوه الرواد،وكأنهم يستنبطون دلائل جريمة ما، ولكن ....... لكن ماذا ؟ !
المشوار إلى أخميم لا يتعدى طوله ثلاث كيلومترات، لا مترو ،لا أتوبيس، بل غابات قصب وبيوت وأساطير ،فلأمتطيه بقدمي، مهلاً يا أرعن، الوقت مساء ،التعنتر ممجوج، ولكن في السير بريق لا يزحزحه الوجل، ما بال فؤادك ارتكس !! كأن الدهر خبا شجاعته، أكانت له شجاعة ؟؟ وكأن السوس نخره، صنع منه ( سرادة ) خرومها واسعة .
القدمان لا تعيران الحوار اهتماماً، تعطل العقل، يصعدني الكوبري، تبهرجه أضواء الفوسفور بالغواية، تمرق السيارات كالومضات، أنظر من فوق الحافة الفضية، أمواج النهر المُنسابة تذكرني بالموت، الهواء يفح بالرطوبة، انتابني الهلع، تقرعني التخبُطات، تتهاوى الخطى والنفثات، فكم جابت قدماي هذا الكوبري ؟ !
تارة للبحث عن دورية غير مقروءة وأخرى لإنهاك البدن، فالجيوب فارغة إلا من خمس سجائر نفرتيتي وبضع كلمات مجهضة النظم.
أتوسط الكوبري، وقفت، أدلي برأسي مُتفرساً المياه، تأز الأسرار :
(تقول النائحة:
يحجز هويس ( مطاي ) الجثة .
من سوهاج لأسيوط سيارة ومقهى ، وكذلك من أسيوط للمنيا، ومنها لمطاي ثلاث سيارات وثلاث مقاه، أركب الهويس، هدير المياه يربك الحواس . تمعن النظر في دوامة المياه حتى لا تُصاب بالدوار ؛هكذا قال ... من ... من ... لا أدري الآن .
وفي الدوار جنازة ونواح، وحُزن مؤجل .
لا شيء يشغلني سوى الواجب، ألتهم قنطرة الهويس. مئات المرات، طعمها القلق والتوتر والتشفي،ولماذا التشفي؟
ألم يكن عمك؟
بلي؛ولكنه لم يعطنا كامل أرثنا.
لا تجوز علي الميت إلا الرحمة.
لا رحمة دون رد المظالم.
ربما أخطأت الحكم!
الهوس يمتطي الأفئدة، والرجال يفترشون الشاطئ، يشعلون الحطب، يزفرون أدخنة الشيشة، فالليلة السابعة وجان البحور والليل المكلوم يقيدان الجثة)
أضاعف الجُهد واللهاث، خطوات وارتجافات، عرق وثلج، يعبُرني الكوبري، يتدرج ارتفاع الطريق، أبلغ قمة الجحريدة، نباح كلاب يصخُب تارة ويخفت الأخرى،التفت يميناً، جبل البيوت الطينية يخيفني، دروب وتلال وحواري، هيكل حنفية مُعطلة، زحاليق مياه ليلة الخميس، مازالت الرؤى تتأرجح :
( عود ناتئ في القاع يلتف حول الجُثمان .هذا ما صرح به الصياد المأجور .
المشاعل تنبُت شيطانية، هرج ونفير، مراكب الصيد تتمركز حول شيء ما، رجال من كل صوب وحدب، الصياديون يزيحون الجُـثة لتسكُن الهيش، تنغرس قدماي في الطين، يخلعني الحذاء، أميل لأمسكه، يتطين قميصي، وجهي، أخوض، أنغمس ، بمثابرة أجذب اللحم المنفوش ،شج مهول يقطع رأسه.
المياه نفخت أوداجه،وامتلأ وجهه باللحم،فأصبح يشبه أبي تماما.
قالت أمي مُجترة :
ليس بأبيك ) .
أرنو يساراً، ألمح مدينة الجُب،بيوت من الطوب اللبن مهجورة،لكي تصل إليها عليك بالهبوط مئة متر أو أكثر،يقطنها خفير جهم. حفريات الشقف والآثار تفترش المدينة، يفقدك الاهتمام بما يدور في خلدك، فالطريق ينحدر،كن حريصا حتى لا تغرق في يم ،لا اسم له ،ولا عنوان يدل عليه .
قبل انتشار الضوء حضر للسرادق شاب من بحري ،سألته:
أتعرف الحاج؟
أنقذ جميع الركاب ،رجع ليتأكد من عدم وجود أحد،فانقلبت عليه السيارة،حملها ثقيل،ولم يستطع النجاة ،تتالت صرخانه،شغلنا التشافي!
لماذا لم تقدموا له المساعدة؟
ألهتنا جروحنا،لا أحد فينا يجيد العوم
أتعرف الباقين؟
رفقاء سفر
لماذا جئت؟
لأتخلص من كوابيس الندم
انتفضت واقفا،خرجت من الديوان لأشم الهواء،عدت ثانية صائحا:
اشرب الشاي يا باشا وتصحبك السلامة
تمت بحمد الله
عصام الدين محمد أحمد
تعليقات
إرسال تعليق