قصة قصيرة بقلم الكاتب والشاعر يوسف عجو

 



قصة قصيرة :

-----------------

على أطراف قرية صغيرة جبلية تقع ضمن سلسلة جبال طوروس الشامخة . كان أيضا يشمخ على قمة جبل كوخ متهالك قديم محاط بغابة كثيفة تخيف أشرس الكائنات المفترسة 

تمتد خلف هذا الكوخ مغارة متصلة به ومفتوحة من طرف أخر  لها مخرج يطل على سهول زراعية خصبة التربة حيث يغطيه  شلال من المياه المنحدرة من أعلى الجبل  ليصب في مجرى نهر يسقي تلك البساتين المزروعة بمختلف أنواع الفواكه والخضار وكروم الزيتون تتجاورها كروم من العنب الشفاف والأسود عسلي المذاق .

لقد كان مدخل المغارة يمتد بطول يبلغ أكثر من 1كم ومختفي عن الأنظار منذ عقود وقرون طويلة وقد اكتشفه أحد أجدادي منذ قرنين وتوارثته الأجيال إلى أن كان لي نصيب بمعرفة هذا السر

الجو شتوي بإمتياز والسماء ماطرة والأرض العطشى ترتوى من تلك الأمطار المقدسة ، والصمت سيد المكان يرافقه صوت المطر الرنان

لقد كان مسكني عبارة عن  كوخ ريفي يأويني في كل فصول السنة والتشققات كانت سمة هذا المسكن المتهالك 

وأنا أتعرش فيه كأنه قصر يضاهي قصور الملوك  رغم عيوبه التي لا تنتهي 

منذ سنوات عدة كنت أعيش في القرية مع أسرتي المكونة من زوجة ليست جميلة سوى بالروح والعطاء فقد كانت مضيافة وكريمة مع كل من يدق باب دارنا وقد أنجبت وقتها لي أربعة أولاد كانت الطفولة مشتركة فيما بينهم و لهم أسماء تشبه أسماء ملوك الميتانيين و الحوريين والميديين.

كنت فخوراً بأسرتي الصغيرة والتي كانت رغم صغرها تحتضن أغلب جلسات وسهرات  القرية وأهلها الطيبون وساحة القرية كانت تعج بملاعب الطفولة والمرح 

وتتالت الايام والأسابيع والأشهر على القرية والحياة تستمر بشكلها الطبيعي في مراعينا وسهولنا الخصبة.

كانت المفاجأة والمصيبة الكبرى موقع الفصل على عموم اهالي القرية .

فقد زلزلت الأرض من تحت أقدامنا وتعالت صيحات الخوف بين الناس و الهروب يحيط بكل مكان فقد كانت الفاجعة كبيرة .

كان دوي القذائف وأزيز الرصاص ينهال من كل الأطراف على بيوت القرية.

والطائرات التي تشبه أشباح السماء تحوم فوق قريتي ومدينتي الجميلة والموت يحصد الأرواح دون رحمة والجثث تتناثر على أطراف الطرقات و بين الحقول والسهول 

وقد تلون نهر مدينتي وقراها باللون الأحمر الدموي .

لقد تهدمت الكثير من البيوت نتيجة القصف على رؤوس أصحابها وفقدت القرية طبيعتها الريفية و المدينة ضاعت معالمها العصرية وتمرغت في معالم الدمار والهمجية ، 

وقد كان للحيوانات نصيب أخر  من القتل والتمزق والهروب.

ففي تلك اللوحة الجميلة التي رسمت منذ قرون و بتمازج من حكايات متنوعة سقطت الكثير من المفاهيم والقيم الروحية والاجتماعية جراء ماجرى ويجري من صراعات بين الشعوب .

كنت أعمل في ذلك الحقل الذي ورثته عن والدي وقد كان مصدر رزقي ورزق أسرتي الوحيد.

 ألتفتُ حولي والخوف والرعب يلفني من كل الجوانب جراء القصف العشوائي على حارتنا .

 كان دوي الإنفجار قويا و ألسنة النيرات والدخان تتصاعد بين القرى الجبلية والسهول بوحشية .

ركضت كالمجنون متجاهلا كل أشكال القصف والدمار بإتجاه حارتنا في القرية .

وصلت إلى حارتي وتوجهت إلى داري وللأسف فلم أجد سوى الدمار والخراب يعم بيتي والموت كان قد حصد زوجتي ، وأما أولادي فلم أجد لهم أثر يذكر بعد بحث مضني وطويل . ورغم هول الفاجعة فالرحمة استبدلت بوحشية بشرية  والقذائف وطلقات الرصاص .

لقد كان الهروب سيد القرار وقد كان طريق خروجي من قريتي وقرية أجدادي  ومسقط رأسي  وملعب طفولتي.

اجل لقد جبنت انا وتركت قريتي ومدينتي وكل ذكرياتي للأغراب واللصوص والوحوش البشرية ولم يعد لي أرض وزوجة وأولاد. 

لقد ماتت زوجتي وأم اولادي وضاع مني صغاري . 

رحلت و أغتربت عن قريتي ومدينتي المقدسة 

وهربت إلى الجبال وسكنت في ذاك الكوخ الصغير الذي حماني من غدر السنين والأعداء والخونة.

في أغلب الأوقات كان باب الكوخ الخشبي هو صديقي الوحيد  

كنت أتحدث إليه بصمت وهو يترقبني بصمت أكبر  مترافقاً بأزيزه الذي يكاد ينفطر من الحزن  

كان ضوء الشمس يشارف على الغروب وقدوم الليل يبدأ بصمت عاتم ومخيف .

وهطول المطر وغزارته كان يمثل الرعب الأكبر في هذا المكان الموحش .

تعالت الأصوات في الخارج وراودني الشعور بالخوف 

وفُتحَ باب الكوخ على مصراعيه بقوة أجفلت كل شيء في الوسط المحيط وإذ برجل يقف أمامي مرتجفا وهو يلهث من هول الحدث وهو محتار في أمره لايعرف ماذا يفعل وأين يهرب فكل ما كان يردده من كلمات تعبر عن إنقاذه وإخفاءه  من ما هو قادم من الخارج .

سألته عن سبب خوفه وما آلت له حاله  فكان يترجاني ويتوسل إلي أن أخفيه في مكان أمين فالقادم من الخارج أسوأ وأخطر من الموت وهو يحوم بالكوخ من الداخل دون أن يجد مكانا يختبىء فيه.

وضمن هذه الفوضى التي إجتاحت المكان وقلبت الأمور راسأ على عقب في كوخي وبسرعة غير معتاد عليها نهضت من مكاني وأمسكت بالرجل وسحبت السرير بكبسة من أحد أطرافه وتم فتح باب نفق مظلم أدخلت الرجل فيه مع تأكيدي له على أن يدخل في النفق بعيداً دون أن يصدر أي صوت مهما كانت الظروف .

تمددت على سريري الحديدي القديم ببرودة أعصاب مع هدوء في الداخل يرافقه ضجيج يأتي من بين الأشجار في تلك الغابة المرعبة المحفوفة بالمخاطر و كل ذلك قد تعودت عليه منذ عدة سنوات  وتآلفت مع تفاصيله المختلفة.

كنت أترقب بصمت كل ما يجري حولي وماهي إلا لحظات والباب المتهالك قد فُتح بقوة على مصراعيه وبسرعة البرق قفزت من فوق السرير ووقفت على أرضية كوخي القديم 

وإذ بمجموعة من المسلحين على شاكلة بشر ولكنهم يشبهون ذئاب مفترسة و مخيفة يقفون في وسط الكوخ مستغربين من وجودي وما آلت لها ملامحي التي رسمتها تضاريس الزمن وكأنها منذ آلاف السنين مرسومة عليها لوحة تعبر عن حكايات وقصص الأجداد  الذين سطروا بحضارتهم وبطولاتهم التاريخ دون أي خنوع أو انكسار .

أحدهم اقترب مني وأمسك بكتفي وهزني بقوة وسألني عن سبب وجودي هنا فلم أرد عليه مما ي

زاده غضباً و غيظاً ومن ثم تهالت علي الضربات من أولئك المرتزقة ولكن قوة جسدي وإرادتي كانت تشمخ رويداً رويداً أمام ضرباتهم 

وقد هدهم التعب مني والإرهاق وكأن هم من يتلقون الضربات .

أحدهم أجلسني وجلس بجانبي وبهدوء والغدر يظهر من بين عيناه سألني عن رجل ريفي ربما قد مر من الغابة أو اقتحم الكوخ أو قد فر إلى مكان قريب ، فتجاهلت الأمر مستغربا من مرور أحد .

كانت نظراتهم الغريبة تدل على عدم تصديقهم لكلامي وتأكيدهم على أن الرجل الريفي قد دخل الكوخ وهو موجود وربما تحول إلى أحد اساسيات الكوخ  ولكن أكدت لهم عدم دخول أحد إلى هذا المكان ومن يجرؤا على القدوم الى هكذا مكان موحش ومخيف.

الشك كان يراودهم بإستمرار وبين الحينة والأخرة كانت الكلمات البزيئة تنهال علي من جميع المسلحين مترافقة  باللكمات وللمرة الأخيرة عاودني السؤال عن ذاك الشخص الهارب الذي كان يستمع إلى ما يجري داخل الكوخ من مخبئه السري داخل الكهف كانت روحه تؤنبه على قدومه ولجوئه إلي ووقوعي بتلك الورطة التي لا مفر منها  وهو يردد بينه وبين نفسه كان عليه  المضي قُدماً في طريقه إلى المجهول ليحميني من شر تلك الذئاب الوحشية .

طلقة نارية دوت في أذنيه بعد أن اخترقت رأسي وجعلتني افقد توازني وأتهاوى على الأرض فاقداً الإحساس بكل مايحيط من حولي وانتقل بذلك إلى ممالك الأجداد وعروش الميديين والميتانيين والسوباريون الكورد والسومريون وغيرهم وغيرهم.

لقد امتزج حضوري وحاضري بتلك الأطلال التي ظلت شامخة إلى الأبد.

لقد تهاوى الكوخ وضاع الباب السري للمغارة التي خبئت الرجل الريفي فيه ونقلته إلى خلف الشلالات التي كانت تسقي السهول والجبال و ليجمع رحيق الزيزفون ليتابع بحراثة الحقول المزروعةبأشجار الزيتون والرمان وسنابل القمح وكروم العنب .


بقلم : يوسف عجو 

yousef Ejjo

Ousbe Ouje

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ينادمني في البعد عنك بقلم الشاعر خالد الجندي

حسناء في ثوب التواضع بقلم الشاعر فؤاد يوسف ابو طاحون

طفلتي بقلم الشاعرة أم إبراهيم